
لا يختلف اثنان ممن يتابعون البرامج الحوارية أو النقاشات العامة و حديث المجموعات و حتى حوارات المقاهي، على أننا نفتقد لثقافة الإنصات، فقلما تجد متحاورين أو أكثر ينصتون لبعضهم البعض دون تدخل أو مقاطعة. فهناك من عطل أذنيه و صمهما عن الاستماع و ترك الحرية للسانه يقاطع به هذا و يعارض به ذاك و ينتقد به آخر دون مراعاة للآداب الحديث أو إعطاء حرية التعبير عن الرأي للآخرين. و تجد أغلب من يؤثثون الحوارات ينتظر الفرصة لاقتناص وقت للحديث ليعبر عن رأيه بل و منهم من يتجرأ على المتحدث فيقطع كلامه بل و منهم يحث المتكلم مباشرة على الإسراع بالحديث كي يتسنى له أخذ الكلمة.
و في كثير من الأحيان يضطر بعض المتدخلين للخروج من اللقاءات و الحوارات و مغادرة القاعات بأعباء نفسية كبيرة لعدم قدرتهم على الاستماع أو الحديث بسبب هذه الممارسات المزعجة و السلوكيات الخاطئة لتزيغ بذلك هذه الحوارات و اللقاءات عن هدفها الرائع كونها متعة تعلم في آن واحد، و حتى من أرغمه الحياء للبقاء فتجده جالسا و هو متضايق و نادم على الوقت الذي هدره و على قبول دعوة الحضور.
الاستماع ثقافة جميلة لو أحسنا التعامل معها، و هي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:أولها استماع سلبي، و هو عندما تجد المستمع حاضر جسدا و ذهنه غائب أو مشغول بعيدا عن موضوع المتحدث، و ثاني الأقسام، استماع انتقائي،و يقصد به اختيار المستمع لما يهمه فقط من كلام المتحدث، و ثالث الأقسام هو المرغوب فيه و هو استماع نشط و يصطلح عليه بالإنصات، حيث حضور المستمع جسديا و ذهنيا و اهتمام كلي بما يسمعه من المتكلم.
و تعتبر ثقافة الإنصات ثقافة منسية في حياتنا الاجتماعية، فالكثير ان استمع لا ينصت. و من مهارات الإنصات أن تتابع بعمق ما يقوله الآخرون وأن تقبل عليهم بكل جوارحك، سمعك و قلبك و بصرك و كامل حواسك، و هذا ما يفتقده كثير من الناس و ملخصه هو ترك المتحدث يتكلم دون مقاطعة و التركيز على تعابير وجهه و حركات جسده و إيماءاته بل وتشجيعه على الاستمرار في الحديث و تقدير مشاعره و أفكاره.
و يبقى الإنصات الجيد سلوكا حضاريا و أحد عوامل التواصل الصحيح مع الآخر. و لا يجب أن يكون الاختلاف مع المتحدث سببا في عدم الإنصات إليه، و لا غرابة أن تجد متحدثك يرتاح إليك و يهتم بما تطرحه عليه، فهذا سر يهتم به الخطباء فتراهم يتوجهون بنظراتهم لمن يصغي إليهم و يتلقى الأفكار منهم بكل اهتمام دون أن نغفل تلك الهبة التي يعطيها الإنصات الجيد لصاحبه ليبدو في أعين الناس أكثر حكمة و ذكاء.
والإنصات الجيد يكون دائما سببا في التقارب و الاحترام المتبادل بين المتحدث و المستمع و يصبح بذلك الحوار ذا فائدة و معنى.
لذلك و جب علينا أن ننفض الغبار عن ثقافة الإنصات و فن الاستماع في الطريق لكسب قلوب الناس و جعلهم أكثر وعيا و وضوحا أمام أنفسهم، و قد أثبت علم النفس الاجتماعي أن الاستماع الجيد من أهم الأدوات التي توصل إلى قلوب الآخرين و التفاهم المثمر معهم . و يبقى الاستماع إلى الآخر فن و مهارة، يمكن للمرء أن يتعلمها، فإنما العلم بالتعلم و الحلم بالتحلم.
فاكتساب ثقافة الاستماع و الإنصات لا يحط من قدر أحد بل هو محفز لمزيد من الارتقاء و الوعي و هو مفتاح سحري لأبواب كثيرة من المعارف لا تفتح إلا به. و من أجل ترسيخ ثقافة الإنصات في حياتنا ينبغي أن نبدأ أولا و قبل كل شيء بعدم مقاطعة المتحدث أو محاولة القفز على كلامه ونتذكر أن كل واحد له ما يستحق أن يقوله لو أتيحت له الفرصة و الإنصات الجيد.
و من أهم أدبيات الإنصات، التواصل الجيد مع المتحدث و التفاعل مع حديثه بشكل صادق و انتظاره حتى يكمل للرد عليه فلا غرابة إذن أن الله خلق لنا لسانا واحدا و أذنين اثنين